في بداية
التحالف الدولي الذي دعا إليه العرب وقادته أمريكا لمحاربة الدولة الإسلامية، بل
للقضاء على الدولة الإسلامية، لم تكن أمريكا مضطرة لاشتراك تركيا في الحلف. كانت
تظن أن الدول ستتهافت تهافت الذباب على النجس من أجل المشاركة في القضاء على
الدولة الإسلامية، وأن الدول الحليفة والمنافقة ستضع جيوشها تحت تصرف التحالف، كون
الغرب وعلى رأسه أمريكا لا يريدون دخول أي معركة برية في المنطقة لأسباب كثيرة تم
التفصيل فيها في حينها.
ولٰكن خطوة
خطوة، وبسرعة مرت الخطوات وجدت أمريكا نفسها أمام نفور من الجميع من المشاركة إلا
إيران والنظام السوري اللذان عرضا وتسابقا في عرض خدماتهما هٰذه. وهما تحديداً حسب
النصائح التي رسى عليها الغرب لا يجوز أن يكون رأس حربة، ولا يجوز أن يكون اشتراكهما
مع أمريكا ظاهراً للعيان، أو في التصريحات.
هنا لم تجدي
أمريكا والغرب بديلاً عن تركيا. وكان ما كان من مسلسل الإغراء والترغيب والترهيب
والاستفزاز والأخذ والجذب والدفع والشد في التعامل مع تركيا من أجل الاشتراك في
التحالف. هم يريدون من تركيا أن تقود المعركة البرية لا يريدون الاشتراك بالاسم
فقط كما كانوا يناشدون دول العالم المختلفة من أجل زيادة العدد على عيون الحاسدين.
فتركيا مشتركة في التحالف بالاسم، ولۤكنَّهَا لم تقبل أن تشترك في المعركة البرية
على الأقل لأنه ليس في مصلحتها، ولذۤلك اشترطت على التحالف إسقاط نظام بشار الأسد ولٰكنَّ
أمريكا رفضت ذۤلكَ رفضاً مطلقاً... كما أبنا في أكثر من مقال. فوصلت الأمور إلى
حالة الاستقطاب وبدا أن الأمور لا تسير في الطريق المرضي لأمريكا والغرب.
هنا كان لا بُدَّ
من تدخل الفيلسوف برنار هنري ليفي دينامو استراتيجيا السياسة الغربية تجاه المنطقة
العربية والإسلامية تحديداً. كتب مقالاً عرفت به البشرية قبل أن ينشر. ونشرته أمس الاثنين
13/10/2014م بالتزامن معاً صحيفه ليبراسيون الفرنسية وسبع صحف أوروبيه وأمريكيه، في
ظاهرة تكاد تكون غير مسبوقة. عنوان المقال النداء الأخير من أجل كوباني.
أن يوجه نداء
من أجل كوباني فهٰذا أمر محمود، وكثيرون وجهوا نداءات. ولٰكنَّ نداء الصهيوني المتشدد
برنار هنري ليفي له نكهة خاصة، خاصة وأنه بمنزلة صانع قرار، ومهندس قرار من جهة أولى،
وطبيعة النداء الذي وجهه من جهة ثانية. ليفي في هٰذا النداء وجه تهديداً صريحاً وتاريخيًّا
لتركيا بطردها من حلف شمال الأطلسي الناتو قائلاً بالنص والحرف: «إذا تركت تركيا مدينه
(عين العرب) كوباني السوريه تسقط في أيدي داعش، فإنه سيتعين طرح مسأله انتمائها إلى
الحلف الأطلسي الناتو». ورداً علي سؤال لوكالة فرانس برس قال هنري ليفي «إن موقع
تركيا في الحلف الأطلسي سيصبح مريباً إذا تركت كوباني تسقط... يجب قول ذۤلكَ في
الساعات المقبله للسلطات التركية».
عجباً، كلُّ
العمليات التي قادها الناتو قادتها أمريكا بجنودها لماذا هٰذه العملية تحديداً يجب
أن يكون الجيش التركي هو بطلها؟ ألا يوجد في التحالف إلا تركيا حَتَّى تحمل عبء هٰذه
المعركة؟!
وتابع هنري
ليفي قائلاً في المقال «إنَّ قوات الدولة الإسلامية تتقدم بين ساعةٍ وأخرى، من
شارع إلى شارع. والحل الأخير هو إما يتدخل الجيش التركي في اطار انتمائه الي الحلف
الاطلسي و/أو أن تترك آلاف المقاتلين الأكراد العالقين على الحدود والمتطوعين
للدفاع عن المدينه يمرون».
حماس منقطع
النظير يربك الكثيرين في حقيقة الأمر. فما عدا التحليلات التي أطنبنا فيها نشعر بسبب
هٰذه الحماسة منقطعة النظير وكأن الأكراد طائفة
يهودية صهيونية لأنه لا يتم الدفاع عن أحد بهٰذه الطريقة إلا عن اليهود الصهاينة.
والأسئلة التي فرضت ذاتها هنا أمام هٰذه المطالبة: لماذا لم يتم تحرك الضمير
العالمي على مدار الأربع سنوات أمام مجازر تفوق ما يحدث بعين العرب مئات المرات في
سوريا وحَتَّى في العراق على يد نظام المالكي...وغيره كثير مما وقفنا عنده سابقاً؟
وسؤال مباشر يطرح ذاته هنا أيضاً: لماذا المطالبة والمناشدة بدخول عناصر أجنبية
إلى سوريا على الرَّغْمِ من أن مجلس الأمن قرر منذ أسبع أو أكثر قليلاً عدم السماح
لأي أجنبي بدخول سوريا؟؟ ما هٰذا التناقض الوقح الصفيق؟ لماذا يحق للأكراد الأتراك
الدفاع عن أخوانهم الأكراد في سوريا ولا يحق للسنة الأتراك الدفاع عن السنة
السوريين؟ ولماذا لا يحق للهرب السنة الدفاع عن السنة السوريين؟ تناقضات وقحة
صفيقة تقول بوضوح يجب قتل كل من هو مسلم سني حصراً.
تباع هنري
ليفي استفزازه وتهديده قائلاً: «ولٰكنَّ تركيا لا تتحرك. وتتعلل بمماحكات قانونية،
هي تنتظر سقوط المدينه. وإذا سقطت كوباني، ستكون الحكومه التركيه مسؤوله عن ذۤلكَ مباشرة».
لماذا تكون تركيا هي المسؤولة عن سقوط عين العرب؟ لقد مهد وزير الدفاع الأمريكي لذۤلك
منذ ثلاثة أسابيع تقريباً عندما اتهم تركيا بأنها هي من يدعم الدولة الإسلامية، وعلى رغم اعتذاره لاحقاً عند
الحاجة إلى توسل تركيا القيام بدور في المعركة، إلا أن هٰذا الاتهام بقي ورقة على
الطاولة.
وتابع هنري
ليفي في تصوير خطر الدولة الإسلامية: «لا يمكن أن نقول إن داعش تشكل تهديداً
عالمياً ونتساهل حيال إضعاف التحالف العسكري الذي يشكل أساس الرد على داعش، عند أكثر
النقاط حرجاً بفعل عدم مسؤوليه أردوغان الرئيس التركي»، وتباع: «أطلب من حلفاء تركيا داخل حلف شمال الأطلسي وضع أردوغان أمام
مسؤولياته». ولماذا تركيا؟ يضيف ليفي: «تركيا هي الركيزه الشرقيه للحلف الأطلسي.
ونحن ازاء ساعه الحقيقه بالنسبه إلى وجودها في الحلف الأطلسي».
كل هٰذه الادعاءات
تضع الأطلسي أمام علامات استفهام أثرناها منذ عشرات السنين. ونعيد في هٰذا الإطار،
أمريكا والحلف وراءها تصرفت سابقاً في المنطقة الشرقية من دون مشاركة تركيا فلماذا
تركيا الآن هي الركن الشرقي للحلف؟ ما هٰذا الإغراء الساذج؟ وطالما أنَّ الدولة
الإسلامية تهدد العالم فلماذا يطلب من تركيا أن تدافع عن العالم وتدفع الثمن فيما
يبقى الآخرون مجرد مراقبين لا يفعلون إلا حصد نتائج التضحيات التركية؟
ولم يكتف هنري
ليفي بتهديد تركيا بمستقبلها في حلف الأطلسي بل هدد وجودها الأوروبي أيضاً، قال: «كوباني تشكل اختباراً
لتركيا ولمستقبلها الأوروبي وانتمائها للحلف الأطلسي. بل شدد بالتصعيد في ذۤلكَ فقال:
«لا أتخيل أنها يمكن أن تبقى داخل الحلف الأطلسي إذا تركت كوباني تسقط». كوباني
جزء من سوريا وليست جزءاً من إسرائيل فلماذا هٰذا الحرص عليها دون غيرها من مدن
سوريا المئات التي تعرضت لما تعرضت وتتعرض له كوباني؟ وإذا تركنا النظام جانباً
لأسباب تقنية نتساءل لماذا لم يهتز الضمير العالمي ذاته هٰذا الاهتزاز الزلزالي الهائج
لدى دخول الدولة الإسلامية إلى المدن السورية الأخرى؟
ثَمَّة سر
وراء ذۤلكَ بالتأكيد. كشفنا جوانب معينة سابقاً ونظن أن ثَمَّة غيرها. فتهديد هني
ليفي الأخير ليس وحيداً ولا جديداً كما ابنا سابقاً، فهناك سلسلة الجوقة التي تعزف
المواويل السياسية والإعلامية الآنفة الذكر في مقالات أخرى. فقبل أيام عندما وافق البرلمان التركي على السماح بمشاركة الجيش
التركي بالاشتراك في التحالف الدولي للقضاء على الدولة الإسلامية انهال المديح الأوروبي
وارتفع مستوى تقييم الاتحاد الأوروبي للأداء التركي، وبشر بإمكانية ضم تركيا إلى
الاتحاد الأوروبي...
ولٰكنَّ أردوچان اشترط شروطاً لم تقبلها أمريكا فدخلوا في أخذ ورد
وترغيب لتركيا من قبل أمريكا والاتحاد الأوروبي حَتَّى وصلت الأمور إلى أفق
مسدود كون تركيا حَتَّى الآن لم توافق على إشراك قواتها
العسكرية البرية في المعركة ويبدو أن الغرب وصل إلى قناعة بأن تركيا لن تشارك من
دون الموافقة على شروطها فخرج علينا هنري ليفي من سردابه وقال ما قال، وبدأت حملة
التصعيد ضد تركيا، صارت تركيا بلا ديمقراطية، بلا قضاء، تحارب الأقليات... هذا
تقرير الاتحاد الأوروبي اليوم بعد أسبوع تقريبا من تقرير معاكس أطنب في كيل المدح
على تركيا والسياسة التركية.
على
سبيل عدم المزح، الثورة
السورية فرضت على الجميع أن يتعرَّى من كلِّ الأقنعة التي كان يتخفى وراءها. ولذۤلك
أكرر هنا ما قلته منذ ثلاث سنوات: «مهما كانت نتائج الثورة السورية فإنَّهَا
يكفيها شرفاً أنها جعلت الجميع عراةً من الأقنعة».
فهل
سيكون لذلك أثرة في رسم معالم المستقبل؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق