يبدو أنَّهُ لا
تفاوض مع النظام إلا تحت سقف الصقيع. كانت المفاوضات في جنيف في ذروة الشتاء.
ولذۤلك أتت النتائج متجمدة علىٰ الرَّغْمِ من كلِّ السُّخونة في المفاوضات. وكثر
الحديث علىٰ جنيف الثالث علىٰ أمل أن يكون صيفيًّا لعَلَّ الدفئ الجنيفي يثمر عن
نتائج دافئة. ولٰكن فجأة قالوا: «ستشرق الشمس من موسكو».
حسناً، وما المانع؟
ولٰكن أيُّ شمسٍ
ستشرق من موسكو في ذروة الشتاء الرُّوسي وتصدير العواصف الثلجية القاتلة للشرق؟
نحن، في تصور
أوليٍّ، نتوقع أنَّ المجتمع الدولي يصر علىٰ أن تكون النتائج متجمدة دائماً مهما
كان مكان أو زمان التفاوض بَيْنَ النِّظام والمعارضة/ الثورة. ولذۤلك انتقل
المشروع من صيف جنيف إلىٰ جليد موسكو... يبدو أنَّهُم أدركوا أهمية التفاوض بَيْنَ
الثَّورة والنظام في أجواء الثلج والجليد والبرد الشديد.
مهما يكن من أمر لا
بُدَّ من التساؤل عن الأسباب التي حدت بالمجتمع الدولي إلىٰ تبني مبادرة موسكو
والتحول من جنيف إلىٰ موسكو. ويزداد التَّساؤل حدَّة وأهميَّة في ظلِّ الاستقطاب
الكبير بَيْنَ روسيا والغرب علىٰ تبعات الأزمة الأوكرانية، والحصار والاقتصادي
الغربي لروسيا، العقوبات الاقتصادية، وحرب النفط والغاز الغربي علىٰ روسيا!!!
كيف يمكن في ظلِّ
كلِّ هٰذا الاستقطاب أن يسلم الغرب الملف السوري لموسكو مع ما تعنيه نتائج التفاوض
بَيْنَ النِّظام والثورة/ المعارضة. من غير المعقول القول بأن النتائج لا تعني
أمريكا/ إسرائيل والمعسكر الغربي معهم. وإلا لا يمكن فهم ما حدث من الموقف الغربي
وخاصة الأمريكي علىٰ مدار ما سبق من الثورة من تدخل واختراق وما إلىٰ ذۤلكَ من
تحديد مسارات الجيش الحر والمعارك كما يعلم المتابعون جميعاً. قطعاً لدابر
التداعيات في ذۤلكَ، لا شك في أنَّ هناك توافقٌ وانسجامٌ بَيْنَ كل هٰذه الأطراف
الخارجيَّة علىٰ مصير الثَّورة والنظام معاً، ولا يوجد بينهم أيُّ اختلاف كما يبدو
للأفهام السَّطحية... كلهم يريد نتيجةً واحدةً، هم يعرفونها ومتوافقون عليها بصيغة
أو أُخْرَىٰ، والثورة لا تعرف عنها شيئاً للأسف، ولٰكنَّ النظام يعرف خطوطها
العريضة بالتأكيد، ورُبَّما هناك تنسيق في ذۤلكَ.
ومع ذۤلكَ أتوجه بسؤالٍ
غير بريءٍ إلىٰ من يفاوضون النِّظام في موسكو: لماذا لا تفاوضون النِّظام مباشرة
في دمشق، لماذا لا يكون التفاوض إلا عن طريق وسيطٍ روسي أو بوسي أو هندوسي أو كما
كان عن طريق أمريكا وغيرها؟؟؟؟
أفيدونا من فضلكم؟
طالما أنَّهُ لا
يوجد أي ضمانات، والسقف المطروح هو استمرار النظام ورُبَّما تقاسم شيءٍ من السلطة،
فلماذا لا تفاوضون النظام مباشرة وهو وأنتم مسرورن؟
إنَّ أيَّ زعمٍ
تزعمونه لتسويغ التوسيط الخارجي غير مقبول ولا قيمة له، بل ويدل علىٰ جهل وغباء في
تقدير الأمور. أمَّا إذا كان من أجل ضمانات روسية وحَتَّىٰ دوليَّة، وهو الزعم
الوحيد الذي يمكن قبوله، فإنَّ من يظن أنَّ أحداً يستطيع أن يفرض أيَّ ضمانات علىٰ
بشار الأسد فهو واهم ولا يفقه شيئاً من الواقع، ومن ثمَّ فهو غير جدير بأن يكون
مفاوضاً. لأنَّ أدنى الشروط التي يجب تحققها في المفاوض هو فهم الطرف الآخر الذي
سيفاوضه. ناهيكم عن غيره من الشروط. فكيف يمكن لمن لا يعرف شيئاً عن الطرف الذي
سيفاوضه أن يفاوضه؟ هٰذه ليست غباءً وحسب، إنها جريمة مكتملة الأركان.
وحَتَّىٰ يكتمل
النقر بالزعرور، مع بدء المفاوضات فوجئنا بتخفيضات بالجملة في مفاوضات موسكو. فقد كان
ما يسمى وفد الثورة قد طالب بأن يكون وليد المعلم وزير الخارجية ممثلاً للنظام في
مفاوضات موسكو، علىٰ أساس أن وليد المعلم يستطيع أن يقرر أو يضمن أي شيء. وهٰذه
نقطة بلاهة أُخْرَىٰ تعاني من ما يسمى قيادة الثورة السوريَّة، أو المفاوضين
باسمها، لا يعرفون شيئاً أبداً عن طبيعة النظام السوري وكيفية صنع القرار فيه.
علىٰ أيِّ حال، مع
بدء المفاوضات قام النظام بتخفيض مستوى التمثيل من وزير الخارجية إلى مندوبه في
الأمم المتحدة بشار الجعفري. فانبعجت روسيا وخفضت التمثيل من وزير الخارجية سيرچي لافروف
ونطت فوق نائب وزير الخارجَّية بچدانوف إلى جعل مدير معهد الاستشراق في موسكو
رئيساً للوفد الروسي... أمَّا ما يسمى وفد الثورة فهو منخفض أصلاً
إلىٰ ما دون مستوى نائب معاون رئيس بلدية.
ومع كل ذۤلكَ، وذۤلكَ كله، أمريكا والعالم
يعوووووولون الكثير علىٰ هٰذه المفاوضات. تخيلوا المشهد جيِّداً: أوطى سقف تفاوضي يتوقَّع الجميعُ منه أعلىٰ النتائج!!!
إمَّا أنَّ سقف
تفكير الأنظمة السياسيَّة في العالم منخفضٌ جدًّا، إلىٰ أبعد حدود الانخفاض، وكم
هو إذ ذاك سقف العالم منخفض جداً كثيراً كبيراً؟!؟!
أو أنَّ هناك ميل إلىٰ استغباء السوريين إلىٰ درجة لا تطاق... ويا لطف الله عندما
تعلم أنَّ أصحاب القرار، علىٰ افتراض هم أصحاب قرار، أغبياء إلىٰ الحدِّ الذي
يجعلهم يصدقون.
هٰذا كله في كوم، والوفد المفاوض الممثل للثورة في
كوم آخر. في مطلع العام الحالي بدا أنَّ روسيا تتصرَّف مع الثَّورة وكأنَّها هي القائد الأعلىٰ
للثَّورة السُّورية، فهي التي حددت وتحدِّد من يمثل الثورة ومن يفاوض باسم الثورة،
وهي التي تحدد نسب المشاركين، وهي التي تحدِّد أسماء المدعويين للتَّفاوض مع
النظام، علىٰ سبيل المثال:
ـ ثلاث أعضاء من
الإئتلاف... أخيرا رفض الإئتلاف المشاركة.
ـ ثلاث أعضاء من
هيئة التنسيق.
ـ ثلاث أعضاء من
أحزاب الجبهة الوطنية.
ـ ثلاث أعضاء لا أحد يعرف عنهم شيئا.
ـ ثلاث أعضاء شوارعية، علىٰ أساس ممثلين لرأي الشارع.
ـ ومن الممكن من أجل التبهير والإثارة أن تضع خمس
أعضاء من الحزب الشيوعي السوفيتي الراحل...
وفي الوقت نفسه روسيا هي التي تختار وفد النظام
وتأمره ماذا يقول وماذا يفعل.
أجاثا كريستي وهوليووووود بكل خيالهم البوليسي
عاجزون عن هٰذه التركيبة المدهشة. والطَّريف الطَّريف عندما تعلم أن كل هٰذا الخيال قد تحقق اليوم،
ففي سياق خفض السَّقف الذي تحدثنا عنه نجد أنَّ الذين يمثلون الثورة لا علاقة لهم بالثورة إلىٰ حدٍّ كبير،
وهم ممثلون للنظام رُبَّما أكثر من تمثيل النظام لنفسه، ولذۤلك كثرت التعليقات
الساخرة بما يسمى الوفد الممثل للثورة، منها أنَّ النِّظام يفاوض نفسه في موسكو،
ومنها: مفاوضات موسكو هي بَيْنَ المخابرات السياسية والمخابرات العسكرية... وغير
ذۤلكَ من التعليقات.
علىٰ الرَّغْمِ من ذۤلكَ كله فمن المتوقع أن لا
تنجح المفاوضات، سيكون من الصعب أن يتفق النظام مع نفسه.
انتهت اليوم 29/1/2015م المفاوضات بعد تسريبات
سابقة بإخفاقها، حَتَّىٰ أوشك لافروف يقول بعدم جداوها، ثمَّ رقَّع في تصريحٍ آخر
بتمديدها واحتياجها لوقت طويل وغير ذۤلكَ كثير. وكانت الضربة القاضية بالمؤتمر
الختامي الذي عقده الجعفري رئيس وقد النظام. نفى نفياً قاطعاً وجود أي خلافات علىٰ
أي شيء بَيْنَ الفريقين. وأكد توافق الفريقين علىٰ نسف الجنيڤين لأن الجماعات
التكفيرية ظهرت بعدهما، ليؤكد كذب النظام بأنه كان يحارب التكفيريين قبل جنيف.
نقطة الخلاف الوحيدة فيما يبدو هي استكمال
المفاوضات في دمشق. فمن يسمون ممثلي الثورة الذين يعيشون في دمشق يرفضون مفاوضة
النظام في دمشق. يريدون أن يكون مثل أعضاء الإئتلاف: كل اجتماع في عاصمة أوروبية.
السؤال المهم الآن هو: علىٰ افتراض نجحت
المفاوضات، فماذا يمكن أن تفعل علىٰ الأرض؟
أكرر ما كررته
عشرات المرات على مدار سنوات الثورة: بشار
الأسد هو النظام والنظام هو بشار الأسد. بشار الأسد لن يقبل بأي حل لا يكون هو فيه
المنتصر وسيد القرار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق