الثلاثاء، 28 يوليو 2015

قرف الدكترة

قرف الدكترة
الدكتور عزت السيد أحمد
من ذكريات تتجدد
ظللت بعد مناقشة الدكتوراه فترةً وأنا أنشر كتبي ومقالاتي من دون إضافة لقب دكتور.
اعترض عليَّ كثيرٌ من الأصدقاء وغير الأصدقاء: لماذا لا تضيف لقب دكتور؟ لا يجوز...
فصرت أكتبها وصارت عادة. وعزَّز العادة العمل الجامعي الذي يفرض هٰذه الرتابة.
المهم، كانت إجاباتي متنوعة ما بَيْنَ الدعابة والمزح والجد. ولٰكن لا أخفيكم أني لم أكن أرى أن الدكتوراه سترفع مقامي ولا مكانتي ولا شأني، فأنا كاتب وباحث وشاعر... قبل الدكتوراه بعقدين. منذ بدأت النشر في أول الشباب. وليست الدكتوراه هي التي فتحت لي الطريق للكتابة أو النشر.
لم تكن ليخطر ببالي القرف من الدكترة. مهما يكن من أمر هي مقامة علمية يجب تقديرها واحترامها. ولكن مع تتالي الأيام صارت الدكترة (موضة) مثلها مثل قصة الشعر، والبنطلون الضيق والقميص العريض... أي واحد يلبسها بسهولة، بل بلا أي مبالاة... أن يضع الواحد لقب دكتور أمام اسمه أسهل من أكل سندويشة الفلافل وأرخص منها أيضاً. كثيرون لا يعرفون من الدكترة إلا الدك أو ترى تناديهم الناس دكتور، دكتور... ويقدِّمون أنفسهم علىٰ أنَّهُم دكاترة.
بعد ذۤلكَ صارت الدكترة أرخص من الفجل. الكبير والصغير، والمستحق وغير المستحق يريد الحصول علىٰ الدكتوراه. وانفتحت الأبواب علىٰ مصراعيها أمام الجميع لشراء هٰذا اللقب. شراء اللقب بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لأن الحصول علىٰ الدكتوراه ليس حافلة يركبها أيُّ عابر سبيل. الدكتوراه عملٌ بحثيٌّ لا يستطيعه أيُّ واحدٍ، لا يستطيعه أي خريج جامعي. وإلا لما كانت المفاضلات والفحوص والاختبارات والتعقديات التي يمارسها المشرفون...
مات الدكاترة الأساتذة وتقاعد من لم يمت، وكان جيل دكاترة الجامعة الذين وضعنا أمامهم مئات علامات الاستفهام. وصار التنافس علىٰ الإشراف علىٰ الأطروحات الجامعية... تنافس لا يخلو من الحمق وغباء القوانين والتشريعات الجامعية في العالم العربي كله، الأمر الذي جعل الحصول علىٰ الدكتوراه مسألة غيرةٍ لا مسألة بحث علمي، مسألة (جكارة) لا مسألة اهتمام علميٍّ، مسألة إغاظة لا مسألة طموح علمي...
كثر الدكاترة أكثر من النمل على بيدر مهجور. وتنامت من جديد حمَّى الألقاب الدكترية وغيرها، وتنامت من جديد فوضى الكذب والادعاء ونكاد نقترب من يوم ينادي فيه المنادي: «اللي ما معه دكتوراه يرفع إيدو».
في ستينيات القرن العشرين، أي قبل أكثر من خمسين سنة، تقدم غوار الطوشة لعمل. سأله رئيس اللجنة:
ـ ممكن نتعرف عليك؟
قال غوار: الأستاذ غوار الطوشة.
رئيس اللجنة: وهل هناك من يقول عن حاله أستاذ؟
قال غوار: أنا، ما حدا أحسن من حدا.
اليوم هٰذه الظاهرة مستشريةٌ استشراءً لا يصدق. وخاصة علىٰ صفحات التواصل الاجتماعي، رُبَّما يقدم الكثيرون منهم أنفسهم علىٰ أنَّهُم دكاترة في أماكن مختلفة، ولۤكنَّهُم يتعذر عليهم ذۤلكَ في صفحات التواصل الاجتماعي خشية الفضيحة، ولۤكنَّهُم يستبدلون الدكترة بألقاب مشابهة أو أكبر: المستشار... وإذا نكشت وراءه وجدت أنَّهُ مستشار عند زوجته في أمور الطبخ، مثلاً، وليس المثال ببعيد عن الواقع، ولا ببعيد عن حقيقة آلاف المستشارين.
ذۤلكَ كلُّه يدعوك للقرف من الدكترة ومن الألقاب كلها...
سيوجد من يعترض هٰذا الاعتراض أو ذاك. جميل هو الاعتراض، إِنَّهُ إثبات وجود. ولٰكن عندما يكون الكثيرون من طراز هذين المتسابقين تجد أنَّ المسألة تستحق الوقوف عندها:
أعلن بل چيتس عن مسابقة لتعيين خبراء برواتب مغرية. تقدم المئات. اجتمعوا يوم المسابقة في قاعة. أعلن المذيع بمذياع القاعة الترحيب بالمتسابقين وقال:
ـ من ليس يحمل شهادة عليا فلينصرف من فضلكم.
انصرف نحو نصف الحضور. وبعد قليل عاد المذيع ليقول:
ـ من يتكلم أقل من أربع لغات فلينصرف من فضلكم.
انصرف نحو نصف الحضور أيضاً من جديد. ومن جديد عاد المذيع ليقول:
ـ من ليس يتقن أكثر من ثلاث لغات برمجة فلينصرف من فضلكم.
انصرف أكثر من نصف الحضور من جديد. وعاد المذيع من جديد ليقول:
ـ من لديه خبرة أقل من خمس سنوات فلينصرف من فضلكم.
انصرف الجميع وبقي اثنان (وفي رواية عربيان محددان). وفجأة ظهر بل چيتس شخصيًّا ليعلن ترحيبه بهما، وفرحه بأنهما تنطبق عليهما الشروط، فقال بداية:
ـ غريب، ألم يبق غيركما أنتما الاثنان؟
هزَّا رأسيهما وقالا معاً: ماذا كنتم تقولون لهم حَتَّىٰ انصرفوا كلهم؟!
أيها السادة: المسألة ليست مسألة دعابة. هٰذه هي الحقيقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق