يكاد
لا يصدِّق المرءُ أبداً أنَّ أشد دعاة الحريَّة والدِّيمقراطيَّة في عالمنا العربي
قبل الرَّبيع العربيِّ هم اليوم أشدُّ أعداء المناضلين من أجل الحرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة...
أمرٌ
مثل الكذب.
منذ
أكثر من ربع القرن كتبت أكثر من مرَّةٍ أنَّ كثيراً من هٰذه القامات الفكريَّة
والسِّياسيَّة والثَّقافيَّة ليست إلا هياكل جوفاء صنعتها الأنظمة... أصفار
أخرجتها الأنظمة من الحاويات ونفخت فيها وشهرتها وسلَّمتها قياد المؤسَّسات الثَّقافيَّة
والحراك الثَّقافي، ولٰكن نحن شعبٌ نهوى أن ننخدع.
هناك
قاماتٌ فكريَّة عملاقةٌ يتمُّ تداول أقوالها علىٰ أنَّهَا حِكَمٌ تتجاوز الأزمان
في الثَّورة والحريَّة والدِّيمقرطيَّة ونقد الأنظمة الاستبداديَّة في حين أنَّهَا
عناصر مخابرات، كانت تختفي عدَّة أيام في ليالٍ حمراء مع الفراريج المحمرة، وتروِّج
أنَّهَا كانت قيد الاعتقال في أقبية النِّظام وقد تَمَّ الإفراج عنها بمعجزةٍ إلهيَّةٍ.
مات
من مات من هۤؤلاء ولم نفجع بموقفه من الثَّورة. ولٰكنَّ الأحياء منهم كانت موافقهم
كافية لتكون الفجيعة أكبر من أن تحتمل؛ من كان يتصوَّر أن لا يقف مع الثَّورة شخصٌ
مثل دريد لحام الذي كان أجرأ ناقدٍ للفساد والاستبداد والسلطة والنظام الأمني... علىٰ
مدار أربعين سنة؟! أن لا يقف معها أمره وحده مفجعٌ، ولۤكنَّهُ تجاوز ذۤلكَ إلىٰ مناهضة
الثورة والوقوف ضدها. يمكن أن تستوعب وقوف أي فنان آخر هٰذا الموقف ولٰكن أن يكون
من هٰذا الشخص الذي يحمل هٰذه المواصفات فهو الأمر الذي يتجاوز الفجيعة.
مثله
كان طيب تيزيني الذي سَحَرَ العالم بثوريَّته ومعارضته ونقده الجريء؛ كان أنموذجاً
للمناضل الثَّوري الشُّجاع الباسل في نقد النِّظام القمعي والأجهزة الأمنيَّة
والفساد... وإذ به رجل النِّظام الأوَّل!!! لو وقف مثل هٰذا الموقف أيَّ مفكر آخر
أو مثقف آخر لكان يمكن أن تستوعب موقفه، ولٰكن أن يكون منه هو تحديداً بعد نحو ثلاثين
سنة من نضاله الثَّوري فهٰذا أمرٌ لا يصدَّق!! لقد تبيَّن أنَّهُ كلُّه كذب وخداع
وتضليل...
هٰذان
أنموذجان، أنموذجان صارخان. أمَّا مثقفو المواقف المائعة أو العادية فحدث ولا حرج.
لقد أثبتَ المثقَّف العربيُّ أنَّهُ أعجز عن أن يكون قدوةً وغير جديرٍ أبداً بأن
يكون قدوة.
إنَّ
المجتمع العربيَّ الرَّاهن الذي تحرِّكه الراقصات والمسلسلات ومباريات كرة القدم
أكثر ألف مرَّةٍ مما تحركه دماء الشُّهداء المنسفحة علىٰ ربوع سوريا شعب لا يمتلك
من العقل ما يكفي للتَّفكير السَّليم، شعب تحكمه الغرائز البهيميَّة أكثر مما
يحكمه الوجدانُ الأخلاقيُّ أو الإنساني.
كيف
يمكن أن أثق في أنَّ مثل هٰذا الشَّعب العربيِّ الرَّاهن يمكن أن يكون له أيُّ
مستقبلٍ مشرقٍ وهو يرى أهله هو لا أهل غيره يذبحون ويحرقون ويشرَّدون في العراء تحت
المطر والبرد والثلوج والريح والعواصف... وهو بضميره المرتاح يسوح مع السياح،
ويلهو ويعلب وتأخذه الراقصة ومبارة كرة القدم أكثر بألف مرَّةٍ مما يمكن أن تشغل
باله معاناة أهله هؤلاء؟؟؟؟
كلمة
هزلت كلمةٌ قليلةٌ علىٰ مثل هٰذا الحال.
إذن
ليس من المبالغة أبداً القول: لقد أثبت الشَّعب العربيُّ حَتَّىٰ الآن أنَّهُ غير
جدير بالدِّيمقراطية والحريَّة في ظلِّ وعيه الاجتماعي الراهن. ولا تعذرونا علىٰ القسوة
في الحكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق